نبوءة" معين محمد حاطوم
بقلم الشاعر الناقد :صالح احمد
تحدثنا في ألحلقة السابقة عن وجهة النظر..وعن بعد النظر,وقدمنا لكتاب أو(رواية)معين حاطوم(النبي رائع الفلسرالي),وأشرنا الى بعد نظر معين حاطوم في هذا الكتاب ,الامر الذي اظنه اراده (نبوءة)ارتكز في صياغتها على امرين اثنين ,اما الامر الاول :ففكرة او عقيدة المسيح المنتظر الذي يؤمن به اليهود ايمانا مطلقا ,بانه قادم ليخلص هذا الشعب وليرفعه الى اسمى مقام .
اما الامر الثاني فقد اعتمد على فكرة المدينة الفاضلة لافلاطون ,وقد استقى ذلك من ثقافته الفلسفية على ما اظن,ومع ان الفكرة ليست جديدة ,الاّ ان لها جذورها في الفكر الافلاطوني الدنيوي ,كما ان لها جذورها في الفكر الديني العقائدي اليهودي ,الا انها رفضت من قبل المجتمع الدنيوي المتمثل بالشيوعية والراّسمالية على السواء..وظن الطرفان فيها خطرا ..او خيانة او تعديا على السائد.
وكذلك رفضت من اوساط المتدينين اليهود , والعرب على السواء,فبات كاتبها مقاطعا,كأسوأ ما كان عليه وضع افلاطون عندما كتب (مدنيته الفاضلة),وان دل الامر على شيء فانما يدل على سعة افق اليونانيين القدماء بمقابل ضيق افق المعاصرين من مدعي الثقافة والديموقراطية والتقدمية والحرية..الخ.
فالكتاب وكما اشرنا سابقا صودر ومنع من الظهور بامر مباشر من رابين عام 1976 ,وكذلك قوطع كاتبه من قبل الشيوعيين والحزبيين العرب , وذريعة الاول ورغم معرفته بان الكتاب يستند الى اصل ديني يهودي ,وفكرة يهودية,أنه يشكل خطرا سياسيا وينذر بظهور حركة فكرية سياسية جديدة.
واما ذريعة الاخرين من العرب فاظنها لا تتجاوز كونها مجرد قصر نظر واتهام بالمهادنة بلا دليل ولا مبرر كما عودنا امثال هؤلاء المتنطعين بلا مبرر والمعترضين لمجرد الاعتراض ,والمحاربين لكل ما يخالفهم الرأي والوجهة ,وفي هذا تكمن مصيبتهم ومصيباتهم ,والرواية باختصار � النبي رائع الفلسرالي -..فكرة تعيش في رأس فتاة يهودية تجمع بين جمال الخلقة ورقة المظهر الى صلابة الموقف ووحدة التعبير ..كما تجمع بين جمالية النظر والذوق المتمثل بكونها فنانة (رسامة).
والى مثالية الفكر المتمثل بفكرة النبي المنتظر.."المعششة " في راسها فلا تفارقها..
وهنا تجدر الاشارة الى حنكة معين..فقد اختار فكرة عقائدية وغرسها في رأس فتاة ساذجة ,مادية غير متدينة ولا تنحدر من اسرة متدينة..وتسكن في حيفا,المدينة التي لا سيطرة للمتدينين فيها ,بل على العكس يسود فيها التيار الدنيوي والمادي بشكل كبير,وكأنما يريد ان يقول بان فكرة المسيح المخلص فكرة جميع الشعب الاسرائيلي بدون استثناء , ويطور معين الفكرة ,فكرة النبي المخلص ,الذي يعيش في رأس "دفنة" الفتاة الاسرائيلية الذكية كنبي بني اسرائيل الذي سياتي ليخلص هذا الشعب من نفسه اولا ,ومن اعدائه ثانيا .
وهنا يبدأ معين ببث افكاره الثانوية, او لنقل وجهات نظره بالمجتمع الاسرائيلي .
فهو مجتمع فاسد ..كل ما فيه..مجتمع وشعب لا يؤمن لغيره ولا يثق بغيره ..ولا يرى الا التوراة واليهودية دينا ..ويؤمن بحقه في السيطرة على العالم ..شعب يعتمد في قوته على غيره ,وعلى التوكل كقوله على لسان(الراب على دفنه): " لقد بالغ شعبنا في القعود عن جلال الهدف ,لقد تكاسل عن اكتساب الحق رغم ميسور الملك ..انه حقا لشعب فاسد ..يناصر عجل "هارون" الذهبي ويستخف بكلمات الالواح العشر",ص66 .
وهو كذلك يصور وجهة نظر اليهود ورأيهم في الشعب العربي ..فهم يرون العرب مجرد مجرمين ..مخربين..دخلاء..يجب التخلص منهم.
هذه الافكار التي يدحضها معين..ويثبت عكسها باسلوب غير مباشر وجيد..من خلال علاقة دفنة بالشباب العرب وتجاربها معهم في اورشليم و في الجامعة..وخاصة في حادثة التفجير,حيث شارك الشباب العرب في انقاذ ومساعدة المصابين من اليهود,الامر الذي اربك"دفنة",ففي الوقت الذي شاركت فيه الناس صراخهم وهتافهم( اقضوا على العرب,جميعهم مخربون) , تسمع صوتا ينادي بالعربية:"محمود تعال ساعدني..هذا جريح ثقيل الوزن".
وتهتف باستغراب:"عرب ينقذون الجرحى" ,وكذلك من خلال لقائها بالشاب االمثقف(سامر)الذي بجواره اثبت لها ان العربي انسان محب للخير وللعطاء , وانه على عكس فكرتهم عنه,وانه يتمسك باصله العربي رغم كل شيء.
كل هذه الافكار والاحداث اظنه يوظفها لتسهيل امر قبول "دفنه" ان النبي الذي تنتظره سيكون عربيا وليس اسرائيليا.
واخيرا..ونحن نشد على يدي الاخ معين..ونقول كلمة حق فيه..انه كاتب رائع..وانه مبدع رائع..وانه يستطيع ان يوظف الافكار وان يدافع عنها بحوار جاد ومنساب وافكار مترابطة.. وانه استطاع من خلال روايته ان يربط بين المثالية والواقع بشكل رائع وجذاب وبحوار جيد ,وانه استطاع ان يصور المجتمع الاسرائيلي بوضوح وبدقة,وبصدق وجرأة,وان يدافع عن المجتمع العربي بجرأة ايضا..واذا صح التعبير يقول انه استطاع ان يوضح حقيقة المجتمع العربي..الذي لا يحتاج الى الدفاع عن نفسه بقدر حاجته الى توضيح نفسه.
ونرى ان شخصية معين قد برزت من خلال روايته, فهو تارة فيلسوف يبث ما يعشقه من شطحات فلسفية هنا وهناك.
وهو تارة شاعر..يتحول الحوار والبحث بشكل عفوي الى لغة شاعرية رائعة.
وهو احيانا جدلي..واقعي..يتحول الحوار معه وتلقائيا وعفويا الى حوار جدلي فيه الكثير من التقريرية والمباشرة.
الامر الذي ان دل على شيء فانما يدل على سعة اطلاع الكاتب..وتشعب افكاره وتنوع مشاربه الثقافية,وقد وفّق الكاتب رغم كل شيء الى تحقيق اهدافه,فقد وضح شخصية اليهودي,ووضح شخصية العربي,ووضح نهج حياة وفكر اليهودي والاسرائيلي,كما وضح نهج تفكير العربي..
وطبيعة الصراع العربي الاسرائيلي في الداخل على الاقل.
ولكنه..وقد سبق الاحداث(بنبوءته) ان صح التعبير,ولكن ضيق افق السياسيين حرمه من نشر كتابه في وقته مما جعله يحجم,وكما ذكر لي عن نشر الجزاّين الثاني والثالث من الرواية وفيهما زبدة الفكرة..فكرة رائع الفلسرالي..وقيام دولة فلسرال الرائعة التي اشار اليها باختصار في ملخص الكتابين الذي اثبته في نهاية الكتاب..وهذا حقه.
ولكن حقنا عليه ان ينشر الكتابين لتكتمل الفكرة ورغم كل شيء , فتاريخ الفكرة يشفع لها , وما تحمله من افكار يجب ان يخرج الى النور ليصحح المسار وليوضح الافكار ويضعها في النور.
فالى لقاء اخر يا معين في بحث حول رواياتك الاخرى ومجموعاتك الشعرية باذن الله.
صحيفة صوت الحق والحرية �تاريخ ألاصدار 2000- 2-4