لا أستطيع أن أتذكر الآن فى أية ظروف قرأتُ كتاب د. إبراهيم أنيس: "من أسرار اللغة" وأنا طالب فى الجامعة فى النصف الثانى من ستينات القرن الماضى أيام كنت شابا صغيرا ينقل خطواته الأولى على طريق البحث العلمى، ولكنى أستطيع بسهولة أن أتذكر أننى لم أكن أنتهى من عنصر من عناصر بحث الدكتور عن أصل الإعراب فى لغتنا الشريفة، الذى يشكل فصلا من فصول ذلك الكتاب، حتى ينبثق فى عقلى للتو الرد على ذلك العنصر، إذ بدا لى الأمر كله سخيفا متهافتا، ومسيئا أيضا كما سوف يتضح فيما يلى من صفحات. صحيح أن دراستى هذه التى يطالعها القارئ العزيز الآن تحتوى على أشياء وتفصيلات لم تجر لى وقتذاك فى بال، إلا أن بعض الخطوط الرئيسية فى هذه الدراسة هى صدى لما ثار فى ذهنى أوانئذ. وحين دعانى صديقى وزميلى الأستاذ الدكتور محمد الحملاوى كعادته إلى الاشتراك فى مؤتمر تعريب العلوم هذا العام (1431هـ- 2010م) صحا منى العزم فجأة على معاودة القراءة فى بحث د. أنيس والكتابة عنه، فأنا أرى أن مثل تلك البحوث لا تكتب عادةً عفو البال، بل غالبا ما تكون لها أبعاد قد تدقّ فى أوليات أمرها فلا تلحظها العين لدى ميلادها، ثم إذا ما مرت السنون انفجرت كالقنابل الموقوتة.
والآن باسم الله الكريم نبدأ، فنعرف بالدكتور أنيس قبل الدخول فى موضوعنا، ونقول: وُلِد د. إبراهيم أنيس بالقاهرة في 1324 هـ- 1906م، والتحق بدار العلوم، وتخرَّج منها سنة 1930م ليعمل مدرّسا في المدارس الثانوية. ثم من جامعة لندن حصل على البكالوريوس سنة 1939م، فالدكتوراه سنة 1941م. وبعد عودته من أوروبا عمل مدرسا في كلية دار العلوم، وبعدها في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية حيث أنشأ بها معمل صوتيات. ثم عاد ثانية إلى دار العلوم، وترقّى في وظائفها إلى أن أصبح أستاذا ورئيسا لقسم اللغويات. ثم تولَّى العمادة وأُعْفِيَ منها بعد مدة، ليليها مرة أخرى، إلى أن قدم استقالته. وقد اختير أنيس خبيرا بمجمع اللغة العربية عام 1958م، ثم نال عضوية المجمع بعدها بثلاث سنوات. وهو أخو د. عبد العظيم أنيس، وابن عمة الممثل فؤاد المهندس، بل إنه هو نفسه مارس التمثيل وهو طالب بالجامعة. وله فى المجلات العربية عدد من البحوث والمقالات اللغوية، أما كتبه فمنها: "الأصوات اللغوية"، و"من أسرار اللغة"، و"موسيقى الشعر"، و"في اللهجات العربية"، و"دلالة الألفاظ"، و"مستقبل اللغة العربية المشتركة"، و"اللغة بين القومية والعالمية". وقد لبى الرجل نداء خالقه فى 20 جمادى الآخرة 1397 هـ- 8 يونيو 1977م.
وللدكتور أنيس دعوى غاية فى العجب أثبتها فى كتابه: "من أسرار اللغة" تحت عنوان "قصة الإعراب" ملخصها أن العرب لم يكونوا يعرفون الإعراب قبل نهاية القرن الأول وبداية القرن الثانى للهجرة، وأنهم كانوا يسكِّنون أوخر الكلمات دائما، اللهم إلا إذا التقى ساكنان يقع أولهما فى آخر كلمة، ويقع الثانى فى بداية الكلمة التالية، وأن النحويين المسلمين هم الذين اخترعوا ذلك الإعراب اختراعا بعد أن لم يكن فكان، وأن السبب فى ذلك أنهم ربما رَأَوْا تغير أواخر الأسماء فى اللغة اليونانية فحفزهم الأمر إلى أن يكون لهم فى نحوهم شىء مشابه لما عند اليونان، فكان ذلك الإعراب (انظر "من أسرار اللغة"/ ط2/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 182 وما بعدها على مدار بضع عشرات من الصفحات).
ومعنى ذلك أن القرآن قد تم العبث به وتحويله عن صورته الأصلية التى كان عليها إلى صورة أخرى لم يكن له بها قبل القرن الثانى الهجرى أىّ عهد. وفى هذا رَجْعُ أصداءٍ لما قاله بعض المستشرقين من أن القرآن حين نزل فى البداية لم يكن مسجوعا، ثم إن النبى بعد هذا قد غيره بحيث صار ذا فواصل (انظر ما كتبه المستشرق بوهل فى مادة "قرآن" فى "The Encyclopaedia of Islam: دائرة المعارف الإسلامية"/ ط1. وانظر تفنيدى لهذا الزعم المتساخف فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل"/ مكتبة البلد الأمين/ القاهرة/ 1419هـ- 1989م/ 7- 9). كذلك ففى بحث أنيس، فيما يبدو، رَجْعُ أصداء أخرى مما جاءت الإشارة إليه فى مقدمة ترجمة إدوار مونتيه الفرنسية للقرآن من أن ثمة بحثا كان قد كتبه ك. فولرز قبل ذلك بقليل عن "اللغة الشعبية المكتوبة فى الجزيرة العربية قديما" يقول فيه إن القرآن الكريم لم يكن مكتوبا قط على النحو الذى نقرؤه اليوم، ولكنه فى أقدم نسخة منه كان مكتوبا بلهجة مشابهة للهجات الحالية (انظر هذه العبارة فى ترجمتى للمقدمة المذكورة/ ص134 من كتابى: "المستشرقون والقرآن"/ دار القاهرة/ 1423هـ- 2003م). ولتوضيح رأى فولرز أسوق ما وجدته فى مقال كتبه Claude Gilliot بعنوان "Origins and Definitions of the Koranic Text". قال: "K. Vollers considers that the origin of the Koranic language is to be found in a dialect of western Arabia, in Mecca or Medina, reviewed in order to adapt it to the language of ancient Arab poetry". (وهذا رابط المقال على المشباك لمن يريد الرجوع إليه لقراءته والتحقق مما فيه بنفسه:-
http://www.miradaglobal.com/index.ph...emid=9&lang=en). وهى لهجة غير معربة (uninflected Volkssprachen) كما أكد فولرز، المستشرق الألمانى الذى كان مديرا لدار الكتب فى يوم من الأيام وأحد الداعين الملتهبين إلى نبذ الفصحى والركون إلى العامية (انظر "A Comparative Lexical Study of Qur'ānic Arabic" لصاحبه Martin R. Zammit (ط. Brill, 2001, P. 40).
ولمزيد من التوضيح لفكرة فولرز أقتطف هذا النص من دراسة لـKees Versteegh منشورة بتاريخ 2 سبتمبر 2005م فى موقع "Islamic Network" عنوانها: "The Language of the Arabs":
"In his book Volkssprache und Schriftsprache im alten Arabien (’Vernacular and written language in Ancient Arabia’, 1906), Vollers claimed that under the surface of the official text of the Qur’an there were traces of a different language, which were preserved in the literature on the variant readings of the text. He called this underlying language Volkssprache and identified it with the colloquial language of the Prophet and the Meccans. In his view, this colloquial language was the precursor of the modern Arabic dialects. The official text of the Qur’an, however, was revealed in a language that was identical with the poetic language of the Nagd, called by Vollers Schriftsprache . The differences between the two ‘languages’ included the absence of the glottal stop in Meccan Arabic, as well as the elision of the indefinite ending n (nunation) and the vocalic endings. Vollers concluded that there had been an original text of the revelation in the colloquial language of the Prophet; during the period of the conquests, this text was transformed into the language of poetry. The motive behind this transformation was, he asserted, the wish to raise the language of the Qur’an to the level of that of the poems".
ولمزيد آخر من التوضيح لفكرة فولرز أنقل أيضا النص التالى من فصل بعنوان "اللغة العربية في الجاهلية" وجدته على موقع جامعة الملك سعود غفلا من اسم صاحبه ومن اسم الكتاب الذى اقتُطِع منه. يقول النص، الذى يبدو وكأنه ترجمة للنص الإنجليزى السابق: "في كتابه: "Volkessprache und schriftsprache im alten Arabien: اللهجات ولغة الكتابة في العربية القديمة" (1906) يَدَّعي فولرز أن تحت التركيب السطحي للقرآن هناك آثار للغة مختلفة، وهي محفوظة في كتب القراءات القرآنية، وقد سمى تلك الآثار باسم volkessprache (الدارجة)، وقال إنها دارجة أهل مكة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يتكلمها. ويرى فولرز أيضًا أن تلك الدارجة هي السابقة الحقيقية للهجات العربية الحديثة، ومع ذلك فإن القرآن تنزل بلغة مطابقة للغة الشعر الجاهلي النجدية، وهي اللغة التي سماها فولرز: "schriftsprache"، وتتضمن الفروق بين النمطين في رأي فولرز اختفاء الهمزة والتنوين من اللهجة الحجازية، وكذلك غياب التصريف الإعرابي. وخلص فولرز إلى أنه كان هناك نص قديم عامي للقرآن الكريم بلهجة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا النص الدارج تم تحويله إلى لغة الشعر الجاهلي في فترة الفتوحات الإسلامية. يقول فولرز إن الدافع وراء هذا التحويل (أو قل: الترجمة) كان الرغبة في رفع لغة القرآن لمستوى لغة الشعر الجاهلي. ويستمر ليقول إن المسؤولين عن عملية الترجمة تلك كانوا حازمين فيما يخص تحقيق الهمزة والتصريف الإعرابي بالذات، وسمحوا لدون ذلك من السمات أن تظهر في نطق القرآن أو في القراءات البديلة في بعض الأحيان". فى ضوء هذا كله ألا يحق لنا أن نتساءل: من أين يا ترى أتى د. أنيس بمقالته فى عدم إعراب اللغة العربية فى البداية بما يترتب عليه من القول بأن القرآن المجيد لم يكن بالتالى معربا، ثم أُعْرِب فيما بعد؟
وإضافة إلى هذا فمن المعروف أن اللغة العربية لا تجرى فى بناء الجملة دائما على نظام ثابت أو شبه ثابت كاللغات الأوربية التى نعرفها: الفاعل أولا، فالفعل ثانيا، فالمفعول ثالثا، فشبه الجملة رابعا، بل هى لغة مرنة منذ أقدم نصوصها التى وصلتنا من الشعر والأمثال والخطب. فتارة يأتى الفاعل فى بداية الكلام (وهو ما نسميه الآن: مبتدأ)، وتارة يأتى عقب الفعل كما هو الحال فى الجمل الاعتيادية التى لا يميزها شىء ولا ترنو إلى إحداث تأثيرات خاصة لا تستطيعها إلا جمل ذات نظام مختلف قليلا أو كثيرا عن المعتاد الرتيب، فيها تقديم أو تأخير أو حذف أو اعتراض... إلخ. وتارة يأتى الفاعل بعد المفعول به، بل بعده وبعد شبه الجملة والحال والتمييز وأى عنصر آخر يأتى سابقا عليه فى التراكيب المعتادة. وهذا مجرد مثال. فلو طبقنا هذا على القرآن فنرجو أن يقول لنا د. أنيس كيف كان على العرب فى عصر المبعث قبل أن يظهر الإعراب أن يفهموا تلك الجمل والعبارات القرآنية التى لا تجرى على النظام الوَتِيرِىّ الذى يحسنه كل أحد ولا يتميز عادة بشىء؟
هذا، وما أكثر ذلك النوع من الجمل والعبارات على عكس ما يزعم سيادته، إذ حصرها فى أمثلة معدودة كما هو الحال فى الآيات التالية: "فأوجس فى نفسه خيفة موسى"، "فلما جاء آل لوط المرسلون"، "أنَّى يحيى هذه الله بعد موتها"، "حضر يعقوب الموت"، "جاء أحدكم الموت"، "مس الإنسان ضرّ" (من أسرار اللغة/ 226- 227)، مما يسهل على المتلقى فهم معناه دون إعراب. ومع هذا فحتى لو صدقنا دعواه وقلنا إنه لا يوجد فى القرآن سوى هذه الأمثلة وأشباهها، فهل يسهل فهم معناها كما قال؟ إنه ليمكن أن يفهم بعض الناس من المثال الأول أن هناك من أوجس فى نفسه الخيفة التى أوجسها موسى على اعتبار أن "خيفة" مضاف، و"موسى" مضاف إليه. كما أن بعضهم يمكن أن يتصور أن "آل لوط" هم الذين جاؤوا المرسلين لا العكس. لكن وجود الإعراب سوف يحل المشكلة من جذورها ولن يترك بابا للَّبْس والخلط.
على أن الأمثلة التى ضربها الأستاذ الدكتور ليست كل الأمثلة التى يمكن الاستشهاد بها فى هذا السياق، بل هناك أمثلةٌ أخرى جِدُّ كثيرة. خذ مثلا قوله عز وجل: "مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ" (البقرة/ 105)، فكيف نفهم "المشركين" لو كانت بدون إعراب؟ أنقول إنها داخلة فى "الذين كفروا"، أى معطوفة على "أهل الكتاب"؟ أم هل نقول إنها خارجة عن "الذين كفروا"، ومعطوفة عليها لا على أهل الكتاب؟ وخذ عندك كذلك: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ" (البقرة/ 127)، واسأل نفسك: ما موقع إسماعيل هنا؟ آشترك مع أبيه فى رفع البيت، أم مع البيت فى رفع أبيه له هو أيضا، إذ رَفَع البيت رفعا ماديا، ورَفَعَه هو رفعا معنويا؟ وخذ عندك ثالثا الآية التالية: "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ" (البقرة/ 132)، وقل لى: هل وصَّى إبراهيم بنيه ووصى معهم يعقوبَ أيضا، فعندنا موصٍّ واحد؟ أم هل وصى إبراهيم بنيه، ووصى يعقوبُ بنيه هو أيضا، فعندنا إذن موصِّيان؟ وخذ عندك رابعا قوله تعالى: "رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ" (آل عمران/ 192)، فما المقصود به؟ هل المقصود أنك أنت يا رب الذى تدخل الناس النار، فقد أخزيتَ فلانا؟ أم هل المقصود أن من تدخله النار يا رب فقد أخزيتَه؟ لا يفصل فى الأمر هنا إلا ضبط آخر الفعل المضارع: ضَمًّا أو سكونًا على الترتيب. وخذ عندك قوله جل شأنه: "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا"، فكيف نفهم قوله: "ومن الأنعام حَمُولَةً وفَرْشًا" فى حالة غياب الإعراب؟ سوف يتبادر إلى الذهن أن المقصود هو أن الأنعام تُسْتَخْدَم حمولة وفرشا لا أن الله خلق لنا منها حمولة وفرشا. وخذ عندك سادسا هاتين الجملتين من الآية الأولى من سورة "الأعراف" وتخيلهما بدون إعراب: "كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ"، ثم قل: هل المعنى هو أنه "لن يكون فى صدرك حرج"، على أساس أنه نفى؟ أم هل المراد: "لا ينبغى أن يكون فى صدرك حرج"، بوصفه نهيا؟ وخذ عندك أيضا هذه الآية: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ"، فلولا أن "الإنجيل" مكسورة الآخر لظننا أن المعنى المراد هو أن الإنجيل بداية جملة جديدة، وأنه هو الذى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث ويضع الإصر... إلى آخره.
أما تهوين د. أنيس من شأن الروايات التى تتحدث عن واضعى النحو والأسباب التى حملتهم على التفكير فى ذلك، رغبة منه فى التشكيك فى وجود النحو أصلا قبل القرن الثانى للهجرة، ومنها الرواية التى تقول إن بنت أبى الأسود الدؤلى قالت له يوما: "ما أحسنُ السماءِ"، فكان جوابه: "أحسنُها نجومها"، فأفهمته أنها لا تسأل عن أجمل شىء فى السماء، بل تتعجب من جمالها، وكذلك إنكاره أن يكون أبو الأسود قد سمع قارئا يقول: "أن الله برىءٌ من المشركين ورسولِه"، فارتاع وفكر فى وضع النحو، أما تهوينه من شأن هاتين الروايتين وأمثالهما ووصْفه لها بأنها مجرد قصص مسلية طريفة (من أسرار اللغة/ 228) فلا أستطيع أن أرافئه عليه، بل أرى أنه حتى لو ثبت أنها روايات مصنوعة فمن الممكن جدا أن تقع، بل هى تقع كثيرا، إن لم يكن بنصها فعلى شاكلتها. وعلى هذا فليس ثم معنى للتهوين من شأن مثل تلك الروايات أبدا.
ومما يترتب على فكرة إبراهيم أنيس الشاذة أن الشعر العربى لم يكن موزونا قبل ذلك التاريخ، ثم لما اخْتُرِع النحو تصادف أن اتَّزَن الشعر بعدما كان مكسورا لا يعرف الإيقاع المنتظم. إن الدكتور، عند توضيح فكرته هنا، يأتى إلى بضعة أبيات اختارها عمدا فيحاول أن يقنعنا أنها عند التزام السكون فى أواخر كلماتها لن تضار كثيرا من ناحية الإيقاع الموسيقى. لكنه لم ينكر أن هناك خللا إيقاعيا قد حدث، وكلّ ما هنالك أنه أراد التهوين من شنعه. ثم إنه لم يقل لنا: ماذا عن تلك المصادفة السعيدة التى على أساسها قد استقام الشعر الجاهلى عند دخول الإعراب على لغة العرب بعدما كان بدونه ملتويا فى إيقاعه وموسيقاه؟ على كل حال سوف أورد الآن بضعة أبيات أخرى، ولتكن من معلقة امرئ القيس لنرى معا كيف يكون حالها من دون الإعراب، ثم كيف يكون حالها به. وها هى ذى الأبيات المذكورة ساكنة أواخر الكلمات عارية عن الإعراب:
فَمِثلُكْ حُبلى قَد طَرَقتْ وَمُرضِعْ * فَأَلهَيتُها عَن ذي تَمائِمْ مُحوِلْ
وَيَومْ عَلى ظَهرِ الكَثيبِْ تَعَذَّرَتْ * عَلَيَّ وَآلَتْ حَلفَةْ لَم تُحَلَّلْ
وَبَيضَةْ خِدرْ لا يُرامْ خِباءْها * تَمَتَّعتُ مِن لَهوْ بِها غَيرْ مُعجَلْ
تَجاوَزت أَحراسْ إِلَيها وَمَعشَرْ * عَلَيَّ حِراصْ لَو يُسِرّونَ مَقتَلي
فَقالَت: يَمينَ اللَهْ ما لَكْ حيلَةْ * وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةْ تَنجَلي
خَرَجت بِها أَمشي تَجُرّْ وَراءْنا * عَلى أَثَرَينا ذَيلْ مِرْطِ مُرَحَّلْ
إِذا اِلتَفَتَت نَحوي تَضَوَّعْ ريحْها * نَسيمَ الصَبا جاءَت بِرَيّا القَرَنفُلْ
وللبحث بقيّة....