حسن حجازي ولعبة التحولات
فى دواوينه السابقة التى أتيح لى مطالعتها – همسات دافئة ، حواء وأنا ، فى انتظار الفجر – يغلب على تجربة حسن حجازى اللون العاطفى ، ربما مال ديوانه " فى انتظار الفجر " إلى موازنة بين الهم العام والهم الخاص من خلال استيعاب أوجاع العصر بجانب أوجاع القلب ، لكن شاعرنا هنا يبدو صريحا فى انحيازه للهم العام ، خاصة أوجاع الوطن ، وهو ما يزيد من صعوبة الأمر بلا شك
فإن كان يلمّح ببراءة طريفة فى قصائده السابقة كقوله ( فلم يجدوا سوى شاعر / فى أول الصف / ينتظر دوره / أمام أحد المخابز المغلقة )
وإن كان فى ديوانه (حواء وانا ) يبدأ صفحاته بقصائد باكية مثل قوله (إيه يا بغداد يا قلب العراق / يا نبض العروبة ، ويارمزا للاجداد ...)
وإن كان قد نثر العطر النزارى الحميم فى أرجاء ديوانه " همسات دافئة " فإنه هنا مخلص لقضية العروبة ، وينتج شعره من هذا الفهم لجدوى الشعر ، فالشعر لدى حسن حجازى رسالة ؛ ومن شروط الرسالة أن تكون شديدة الوضوح ، وهى رؤية لها وجاهتها ، وإن كانت لها مثالبها عند نقادنا القدامى ، وقد أشار الجرجانى فى " أسرار البلاغة إلى أن القارىء يأنس ويفرح إذا استطاع بعد جهد أن يحصل على معنى يستحق الجهد الذى بذله "
لكنه يذم التعقيد إذا كان اللفظ لم يرتب الترتيب الذى بمثله تحدث الدلالة على الغرض ، وقد ذم هذا الجنس لأنه احوجك إلى فكر زائد عن المقدار الذى ينبغى فى مثله "
ولذا فشاعرنا يقدر طبيعة العصر ، خاصة أنه اعتاد الشعر العاطفى ، الذى يسيل رقة وعذوبة ، ولهذا كان الانتقال إلى الشعر السياسى خاضعا لتقاليد تتناسب والعاطفة أكثر ، الوضوح ، البساطة ، المباشرة ، الزخم الموسيقى البالغ ...
نداء :
لمنظمة الأمم
للجامعة العربية
للجان الثورية
للمجالس المحلية
المركزية
ننادى
هل من مجيب ؟
يلجأ شاعرنا للطرح المباشر التلقائى ، غير أنه يطعّم ذلك الطرح المباشر ، بالرمز حينا وبالتضمين احيانا وبالتناص فى أحيان أخرى ، وهذا الرمز يلجأ له شاعرنا بحذر شديد ، بل ويرفق " مذكرة تفسيرية " بإشاراته فى نهاية القصيدة ، إنه المنحى الاجتماعى الطاغى لدى الشاعر ، والذى يدفعه لاستحضار صورة القارىء دائما ، كذلك هو طابع المعلم (المدرس ) الذى يخشى دائما الإنغلاق ، يخشى صعوبة التلقى ، يخشى أن يكون ممن قال عنهم نزار :
شعراء هذا اليوم جنس ثالث
فالقول فوضى والكلام ضباب
ولأن الشعر ليس نية طيبة فحسب ، فقد خرجت للحياة الأدبية – والكلام لصلاح عبد الصبور – نماذج أدبية رديئة كان جديرا بأصحابها أن يكتموها بين أضلاعهم أو فى أدراج مكاتبهم ، ولكن خرجت تلك النماذج إلى الحياة العلنية لكى تملأ الجو الأدبى ضجة بلا صدى ، وأنا – والكلام ما زال لعبد الصبور – أعذر القارىء حين يرى تلك البضاعة الرديئة فينصرف عنها " أقول لكم عن الشعر .
وهل منع الوضوح تحميل القصيدة العربية بأقصى اندفاعات السياسة وأتم درجات الوعى ؟
إن الشاعر هنا يسعى للارتقاء بنصه عبر آلية محببة لدى المتلقى ، أعنى السخرية ، والسخرية مع قلب الحقائق هنا تأتى دافعة للتفكير ، مرهصة بغضب آت قريبا ، يقول :
لحكومةِ الكيان
الصديقة الرقيقة
الشريفة العفيفة
صاحبةُ العصمةِ والصولجان ,
المنزهة عن الخطأ
والنسيان ,
صديقة " الفيتو"
المنزهة عن العدوان ,
المدللة في قلبِ أمريكا
المُنعِمة الواهبة
المانحة السابحة
بيان :
يا صاحبةَ العصمة والسلطان
أيتها المترفعة عن الصغائر
الماهرة
في العزف علي الضمائر
الساهرة
الداعية للسلام
سلام ,
الشاعر هنا يبدأ فى الثورة على ذاته ، وعلى لغته ، وعلى اهتماماته السابقة ، وموضوعاته الأثيرة ، ويستجلب لغة أكثر حضورا ( أنادى عبر المحمول / عبر المأمول / من الأمس / لليوم / للغد ) ويصل به الغضب إلى حد التناص المقلوب ( إن كان بك غضب علىّ فلا أبالى )هو بهذا التناص المخيف يعلن أقصى حالات يأسه ، هذا اليأس الممتد من " الدويقة " بقلب القاهرة إلى كافة بقاع وطننا العربى ، وتسهم الأسطورة فى رسم ملامح هذا الغضب اليائس ( يا عدالة السماء : ألم يكفِّر سيزيف – بعد – عن كل خطاياه ؟)
إن أحد النقاد الغربيين – جورج نونمشار – يرى فى كتابه دلالات الأثر" أن القدرة الشعرية تكمن فى جعل ذلك الجانب المظلم من الكينونة يفصح عن نفسه "
وإن كنا لا نبرأ النقد حتى يقول عنه عبد المعطى حجازى أن النقد يقف موقفا يبدو كأنه موجود وغير موجود فى آن واحد "
لكن تجربة حسن حجازى فى هذا الديوان – التى فى خاطرى – والذى يؤكد فيه عبقرية استخدامه للتناص بداية من العنوان الملفت ، والمحيل إلى نص شهير ُمغنى " مصر التى فى خاطرى " ثم يواصل تناصه عبر القرآن الكريم فى جهات عديدة متكررة ، كاشفا عن توجه دال على تدين عميق ، وثقافة طيبة ، لكنه يظل قادرا على التغنى بالآنى – الحالى – مهما كانت مباشرته ، ومهما كانت تداخلاته مع سابق مواقفه ، خاصة فى معالجته المتكررة لقضية غزة وفتح الحدود وتاثير ذلك على مصر ، ثم لعبة التنكر لمصر ومواقفها .. إلخ
الخطورة هنا أن يكون الشعر ردا مباشرا – عاطفيا – للضغط الإخبارى الذى نتلقاه عبر إعلامنا ، ثم أنه مرتبط بلحظة معرضة للنسيان ، ولهذا لم يعد الشعر ينتظر الخلود ، إنما قنع الشعراء بمجرد التعبير الصادق عن الذات ..
مصرُ بعدَ اليوم
لا انهزام ,
مصر دوماً
للأمام ,
مصر دوماً
للأمان ,
وكانت عيونهُ كالصقر
عينٌ على القدسِ
وعينٌ لربِ السماء
شاكرة
وأخرى نحو القاهرة
ترنو لأيامٍ قادمة
تبني بلداَ للمحبة
للسلام
أعود للقول إن تجربة شاعرنا فى هذا الديوان ، تحمل تطورا فى الرؤى ، وانخلاعا من الذات إلى خارجها ، وتماسا مع قضايا حاكمة خانقة للمواطن العربى ، ولذا فالديوان القادم ، سيكون أكثر غضبا ، وأشد قربا من الرجل العادى الموجوع بالأسعار والقهر والجهل والفقر ، وفى كل الأحوال ، أنت امام شاعر رسالى ، يسعى بكلمته للناس عبر لغة واصلة وصورة قريبة من الناس ..
فهل هناك أبهى من ذلك ؟!
إبراهيم محمد حمزة
[center]